الجمعة، 28 فبراير 2014

الإسلام ؛ عقلاني أم معقول ؟!

الإسلام؛ عقلاني أم معقول ؟

الفرق بين قولنا أن الإسلام عقلاني أو أن الإسلام معقول ، كون العبارة الأولى تعني أن العقل هو منشئ للأحكام وعليه فلا ضرورة للاعتماد على النقل ولا الاتكاء أو الرجوع إليه مطلقاً ، وأما الثانية فتعني أن الأحكام الإسلامية  تعرض على العقل فيحكم عليها بالإمكان ، أي أنه لا يجد فيها مخالفات منطقية تدعو لأن يحكم على الأمر بالاستحالة .

وبعد تفريقنا هذا ننتقل إلى بحث مكانة العقل في الإسلام ، وحتى لا نطيل الكلام فإن العقل في الإسلام هو أول الأدلة ، وهذه العبارة لم يختص بها المعتزلة كما هو شائع بل هي من المقررات عند عموم المذاهب الإسلامية – ما خلا الحشوية - فإن مبحث الإلهيات أو التوحيد هو أول مباحث علم الكلام في جميع المذاهب ، وأول الأبواب هو إثبات وجود الخالق واجب الوجود ، والدليل المعتمد في هذا المبحث هو العقل إذ أنه عمدة البراهين الدالة على وجود الله . وبذلك يظهر أن الإسلام لم يلغي العقل بل اعتمده في أول المباحث وأهمها وهو مبحث إثبات وجود الخالق ، ويمتد العقل ليثبت صفات الخالق ولكن هنا يتكئ العقل على أمر آخر وهو النص ، ويكون دور العقل رد المحال في حق الخالق ، فعلى سبيل المثال ، قد توهم بعض النصوص أن الخالق يشابه خلقه ، أو أنه في مكان أو زمان ، فيتدخل العقل حتى يحكم باستحالة مثل هذه الادعاءات .ويقوم بتأويلها بما يناسب المقام .

مما سبق يتضح بشكل لا يدع مكاناً للشك أن الإسلام معتمد بشكل كبير على العقل ، وكما قيل "العقل رسولُ كلِّ إنسان" إذ أنه لولاه لما أمكن الوصول إلى وجوب وجود الإله الخالق الموجد ، وإذا ما نظرنا في كتاب الله وجدنا عشرات الآيات  تحض على استخدام العقل وتحكيمه ، وتعاتب الكفار أنهم غفلوا عن الأسئلة التي تطرحها عليهم عقولهم ، وفي ذلك قال الله {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} ، فعن مجاهد في تفسيرها أنه قال : (الصم البكم الذين لا يعقلون"، قال: الذين لا يتّبعون الحق) ، وعن الطبري أنه قال : (إنّ شر ما دبَّ على الأرض من خلق الله عند الله،  الذين يصمون عن الحق لئلا يستمعوه،  فيعتبروا به ويتعظوا به، وينكُصون عنه إن نطقوا به) .

الآن نأتي لنناقش أصحابنا المطالبين بإلغاء النصوص إلغاء تاماً والاعتماد على العقل وحده ، وأول سؤال يعرض عليهم ، أن العقل إذا كان كافياً وحده ليكون رسولاً فما الضرورة من إرسال الرسالات والرسل ، علماً أنها (أي إرسال الرسل)  في مقام الواجب على الله تعالى ، وهو يدخل ضمن باب العدل الذي يعده المعتزلة ضمن الأصول الخمسة عندهم  ، وكون خطابي هذا موجه في المقام الأول للمسلمين ، فإن ذلك يلزم من ادعى ذلك منهم  كون الرسالات عبثية وهذا محال في حق الله ، أو أن يكون الأنبياء كذبة وهذا كفر بما جاءوا به ، وإذا ما رجعنا لآيات الكتاب وجدنا أن السمع والعقل هما أدوات التكليف ، فلا يجب الإيمان على المجنون الذي فقد عقله والقاعدة الأصولية المعروفة تقول : (إذا سلب ما أوهب ، أسقط ما أوجب ) ، وفي نفس المقام فلا يجب الإيمان على من لم يصله نبي أو رسول ، وفي ذلك يقول الله { وَ مَا كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتى نَبْعَث رَسولاً } وحتى لا يشاغب علينا أحدهم فيقول أن الرسول هو العقل ، نورد الآية التي جمعت الشرطين وهي قول الله تعالى { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } وقد قال الزمخشري شيخ المعتزلة في ذلك السياق (قَالُواْ بلى :  اعتراف منهم بعدل الله ، وإقرار بأن الله عز وعلا أزاح عللهم ببعثه الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه  ... وقيل : إنما جمع بين السمع والعقل؛ لأنّ مدار التكليف على أدلة السمع والعقل . ) فلا أدري من أين جاء من ينسبون أنفسهم إلى المعتزلة ببدعة الاكتفاء بالعقل فقط ! وهو ما اشتهر قديماً على لسان فرق بادت وانقرضت ! ولا أظن المعتزلة منهم !

نرجع الآن لننظر هل يوقف العقل أحكاماً فالإجابة على ذلك في القاعدة الأصولية :(الضرورات تبيح المحظورات ) والقاعدة الأخرى القائلة :(لا ضرر ولا ضرار ) وغيرها من القواعد التي تضع مصلحة الإنسان في المكان الأول ، وبذلك نرى ان القاعدة التي وضعناها في بداية المقال في تعريف كون الإسلام معقولاً ، وهي أن الأحكام تعرض على  العقل ، نجد أن تطبيق بعض الأحكام قد يعرض الإنسان للوقوع بالضرر وعليه فالحكم عليها التحريم من منطلق عقلي-شرعي .

وننظر الآن هل ينشئ العقل أحكاماً ، والإجابة على ذلك جاءت في حديث النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم ) : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد . إذن العقل يقف مفتقراً للنص في مجال إنشاء الأحكام الشرعية ، ويمتد ذلك في مجال تعليل الأحكام الشرعية ، فكثير من الأحكام نعرف عللها كتحريم الزنا والخمر والسرقة وإلى ما هنالك ، لكن نقف عاجزين أمام قضايا أخرى كعدد الصلوات وعدد ركعاتها ووقت الصيام وما يشابه هذه القضايا .

إذن العقل لا يمكنه بحال أن يحكم بوجوب شيء دون نص منفرداً ، خصوصاً في القضايا التعبدية ، أما في القضايا العامة فإن ذلك يكون مندرجاً تحت قواعد كلية كحفظ النفس والعرض والمال وغيرها ، ويقف عاجزاً أمام التعليل التام لكافة التكليفات ، وقبل ذلك كله وأهم منه ، فهو يقف عاجزاً كل العجز عن معرفة عين الإله الخالق الموجد الذي يجب على المخلوق أن يتوجه له بالعبادة ، ولا أعرف هل يمكن لأصحابنا أن يعبدوا خالقاً مجهولاً دلته عليه عقولهم ،  وهو يخالفون أمره باتباع ما أرسل لهم من البينات والهدى ؟!

وأزيد على ذلك أن القاضي عبد الجبار في أوائل صفحات كتابه شرح الأصول الخمسة ،حين تكلم عن الواجب وأقسامه ضرب الأمثلة تارة من الواجب العقلي وتارة من الواجب الشرعي ، ومن المعروف بالبداهة أن العقل لا يستقل بالحكم على أمر ما بالوجوب الشرعي !فكيف يمكن لهؤلاء أن يوفقوا بين كون هذه الأمور واجبة ، وفي ذات الوقت غير مذكورة بالنص ؟!


ختاماً  ولا أريد أن أطيل أكثر ، ولا أجد أن هذا الموضوع يستحق كثيراً من البحث ، إلا أن آفة التقليد والتطبيل للمقابل وإتباع الأفكار والآراء الشاذة في محاولة صياغة الإسلام بقالب حضاري  دون بحث أو تمحيص تفعل مثل ذلك بل وأكثر منه ، والله تعالى المستعان ، وأسأله التوفيق والسداد والرشاد .

الخميس، 20 فبراير 2014

الحداثة والعقلانية في الموازين العلمية

الحداثة والعقلانية في الموازين العلمية

في خضم هذه الثورة الثقافية والفكرية التي تجتاح العالم الإسلامي ، والتي لم تكن قبل سنوات إلا حلماً يداعب أجفاننا ونحن نقلب أوراق الكتب وننظر النهضات التي عاشتها الأمم سواءً في الحضارات الغابرة أو في الحضارات القائمة ، حتى ما وجدنا أنفسنا إلا على خط مواجهة جديد مع ثلة من المتنورين أو النضهويين كما يحبون أن يسمون أنفسهم . وهذا الصدام أمر طبيعي لاسيما ونحن على إيمان بأن الانفتاح مع اختلاف طرق التفكير ووسائله لن ينتج لنا جيلاً مطبعاً على السائد العام ، بل سوف يورث لنا جيلاً متنوع الأفكار والثقافات ، وهذا كله صحي ، والتصرف الصحي الآخر الذي لا بد أن نذكره وننوه عليه هو أن من حق من يدعي التنوير أيضاً ويخالف هؤلاء أن يقف مخالفاً لهم  ويكشف مغالطاتهم ، لا لأنه يطالب بالعودة إلى السائد العام ، بل لأنه حريص على استمرار هذه النهضة وعدم رفضها وإجهاضها وهي في طور التكوين .

أضرب لكم مثالاً على عجل قبل أن أعود إلى القضية التي أردت أن أكتب هذا المقال من أجلها ، في خضم النهضة اليونانية التي كان يقودها ويدعو إليها المفكر العظيم سقراط والتي قتل في سبيلها ، ظهرت لنا مدرسة فلسفية معروفة وهي المدرسة السوفسطائية1 ( وهي تعني معلمي الحكمة ) ، ومع أن سقراط كان يعلم أن ظهور مثل هذه المدارس الفلسفية أمر طبيعي ومتوقع في خضم هذه الثورة التي يحلم بها ويقودها في الأسواق والطرقات إلا أنه انبرى للرد على أفكار هذه المدرسة الفلسفية وتفنيد آرائها . وهو بذلك لم يكن عائقاً ضد النهضة بل كان موجها لها ومصححاً لمسارها .

المتشابه بين ما حدث مع سقراط وما يحدث معنا أن السفسطائية كانت ردة فعل على مدرسة السائد العام إلا أنها وقعت بمغالطة منطقية فادحة وقع بها أصحابنا اليوم ، فالسفسطائية تقوم على الإقناع لا على البرهان العلمي أو المنطقي، وعلى الإدراك الحسي والظن، وعلى استعمال قوة الخطابة والبيان والبلاغة والحوار الخطابي، والقوانين الجدلية الكلامية بهدف الوصول إلى الإقناع بما يعتقد أنه الحقيقة 2 فالطريقة التي استخدمها السفسطائيون كانت تتلخص بالشك في الواقع ثم الانتقال إلى الجدل البناء ، طبعاً دون حاجة إلى الرجوع والبحث في الأدلة ! ومع الزمن أصبحت السفسطائية شعاراً يطلق على  كل فلسفة ضعيفة هشة تبنى على الخطاب لا على الدليل .

في نهضتنا التي نعيشها اليوم أضحى لزاماً علينا التصدي لمن يرفع راية الثقافة أو التنوير ويدافع عنها بل يظن نفسها حكراً عليها ! والسبب في ذلك أن المجتمع  بدأ ينفر من المدارس التقليدية ويبحث عن البديل الذي يلبي طموحاته ويجيب عن أسئلته ، وللأسف وقع كثير من القراء والمثقفين بإشكالية غياب المنهج العلمي في البحث ، وعليه فطبيعي أن تكون النتائج التي توصلوا إليها خاطئة حتى لو وضعت في قوالب جذابة !

على سبيل المثال ، علاقة الخالق مع المخلوق هي علاقة خاصة في جوانب إلا أنها خاضعة للقوانين في جوانب أخرى ، فحين تخلو مع إلهك وتخبره بأسرارك وتطلب منه ما يجول بخاطرك فأنت هنا تمارس علاقتك الخاصة وليس لأحد أن يطلب منك أن تفعل كذا أو أن لا تفعل كذا ، لكن هذه العلاقة خاضعة للقوانين التي وضعها الإله نفسه في ما يتعلق بالعبادات والمعاملات ، وقد أمر الأمة بأن تنفر طائفة من أبنائها كي يتعلموا قوانين هذه العلاقة ، يقول تعالى في ذلك {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } ويوجه الأمة إلى الرجوع إلى هذه الفرقة في فهم أمور دينها فيقول {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، فهذه الآيات تحمل بين طياتها معاني عظيمة كثرة يندرج ما ذكرناه تحتها . إلا أن البعض أراد من هذه العلاقة أن تكون علاقة فوضوية، لا ضابط لها ولا وازع ! وهي مصداق ما ذكره الله في كتابه إذ قال {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} .

وعليه فقد أصبحت العلوم الشرعية بحراً يركب لجته من أراد ذلك دون أن يكون صاحب دراية أو معرفة ، فيجد صاحبنا نفسه ضائعاً هائماً على وجهه ترمي به الأمواج يميناً ويساراً ولا يدري ما يفعل ولا ما يفعل به ! وإذا ما خاطبته قال هذه علاقة بيني وبين ربي ! وهو في علاقته مع جسده يذهب إلى ذوي الخبرة والاختصاص وينصاع لأوامرهم ، وإذا أراد القيام بمشروع اقتصادي تراه يذهب إلى الاقتصاديين ويقوم بدراسة الجدوى قبل أن يقدم على مشروعه ويكون خاسراً فيه ! مع أن جسده ملكه ولا يشعر به أحدٌ غيره ! وأمواله ملكه وإن خسرها فلن يندم أحدٌ غيره ! إلا أنه حين علم نفع المختصين لجأ إليهم ! ولكن حين تعلق الأمر بقضية الوجود تراه يفتي برأيه ويذهب إلى ما لم يأت أحد به من قبله ، لا لأنه بحث ووقع على ما لم يقعوا عليه ، بل لأنه تخبط في مغالطات كان حري به أن يحذرها !

وليت الأمر بقي على هذه الحال ! بل ذهب بعضهم إلى وجوب إلغاء هذه الدراسات والعلوم ، أقصد الدراسات الدينية من فقه وأصول ومصطلح وغيرها  ! ولا أدري ما الذي جال بخاطر هؤلاء ! فعلى مستوى العلوم البشرية تجد أن تطور الفيزياء إلى فيزياء الكم لم يكن حجة أو عذراً أو مسوغاً للمطالبة بإلغاء الفيزياء الكلاسيكية ! وإنما بقي تعليم الطورين جنباً إلى جنب! فلا أدري أكان من المصادفة أن يشترك أصحابنا في هذا المطلب مع الملحدين واللادينيين أم أنها كانت حيلة انطلت عليهم لا أكثر !

لا أريد أن أدخل في قضية التشكيك في النوايا والمقاصد ، لكن كما أن خصومتنا العلمية مع من يعطل العقل تقع في رأس الهرم إلا أنها لا تقل عن خصومتنا مع من انسلخ عن تراثه ظاناً أنها طريقة للسير على درب الحداثة والعقلانية . وفي ختام مقالي آمل ألا يظن أحدٌ أنني أقصده بعينه ، وإنما هو كلام عام أريد به لفت النظر إلى فكرة لا إلى أصحابها ، وإلا فكلٌ حرٌ برأيه . ونسأل الله التوفيق والسداد .


1 ذهب البعض إلى أنها كانت قبل سقراط ولكنها نشطت في عهده وهذا لا يؤثر على استدلالنا .

2. راجع الموسوعة العربية ، ص312