الخميس، 20 فبراير 2014

الحداثة والعقلانية في الموازين العلمية

الحداثة والعقلانية في الموازين العلمية

في خضم هذه الثورة الثقافية والفكرية التي تجتاح العالم الإسلامي ، والتي لم تكن قبل سنوات إلا حلماً يداعب أجفاننا ونحن نقلب أوراق الكتب وننظر النهضات التي عاشتها الأمم سواءً في الحضارات الغابرة أو في الحضارات القائمة ، حتى ما وجدنا أنفسنا إلا على خط مواجهة جديد مع ثلة من المتنورين أو النضهويين كما يحبون أن يسمون أنفسهم . وهذا الصدام أمر طبيعي لاسيما ونحن على إيمان بأن الانفتاح مع اختلاف طرق التفكير ووسائله لن ينتج لنا جيلاً مطبعاً على السائد العام ، بل سوف يورث لنا جيلاً متنوع الأفكار والثقافات ، وهذا كله صحي ، والتصرف الصحي الآخر الذي لا بد أن نذكره وننوه عليه هو أن من حق من يدعي التنوير أيضاً ويخالف هؤلاء أن يقف مخالفاً لهم  ويكشف مغالطاتهم ، لا لأنه يطالب بالعودة إلى السائد العام ، بل لأنه حريص على استمرار هذه النهضة وعدم رفضها وإجهاضها وهي في طور التكوين .

أضرب لكم مثالاً على عجل قبل أن أعود إلى القضية التي أردت أن أكتب هذا المقال من أجلها ، في خضم النهضة اليونانية التي كان يقودها ويدعو إليها المفكر العظيم سقراط والتي قتل في سبيلها ، ظهرت لنا مدرسة فلسفية معروفة وهي المدرسة السوفسطائية1 ( وهي تعني معلمي الحكمة ) ، ومع أن سقراط كان يعلم أن ظهور مثل هذه المدارس الفلسفية أمر طبيعي ومتوقع في خضم هذه الثورة التي يحلم بها ويقودها في الأسواق والطرقات إلا أنه انبرى للرد على أفكار هذه المدرسة الفلسفية وتفنيد آرائها . وهو بذلك لم يكن عائقاً ضد النهضة بل كان موجها لها ومصححاً لمسارها .

المتشابه بين ما حدث مع سقراط وما يحدث معنا أن السفسطائية كانت ردة فعل على مدرسة السائد العام إلا أنها وقعت بمغالطة منطقية فادحة وقع بها أصحابنا اليوم ، فالسفسطائية تقوم على الإقناع لا على البرهان العلمي أو المنطقي، وعلى الإدراك الحسي والظن، وعلى استعمال قوة الخطابة والبيان والبلاغة والحوار الخطابي، والقوانين الجدلية الكلامية بهدف الوصول إلى الإقناع بما يعتقد أنه الحقيقة 2 فالطريقة التي استخدمها السفسطائيون كانت تتلخص بالشك في الواقع ثم الانتقال إلى الجدل البناء ، طبعاً دون حاجة إلى الرجوع والبحث في الأدلة ! ومع الزمن أصبحت السفسطائية شعاراً يطلق على  كل فلسفة ضعيفة هشة تبنى على الخطاب لا على الدليل .

في نهضتنا التي نعيشها اليوم أضحى لزاماً علينا التصدي لمن يرفع راية الثقافة أو التنوير ويدافع عنها بل يظن نفسها حكراً عليها ! والسبب في ذلك أن المجتمع  بدأ ينفر من المدارس التقليدية ويبحث عن البديل الذي يلبي طموحاته ويجيب عن أسئلته ، وللأسف وقع كثير من القراء والمثقفين بإشكالية غياب المنهج العلمي في البحث ، وعليه فطبيعي أن تكون النتائج التي توصلوا إليها خاطئة حتى لو وضعت في قوالب جذابة !

على سبيل المثال ، علاقة الخالق مع المخلوق هي علاقة خاصة في جوانب إلا أنها خاضعة للقوانين في جوانب أخرى ، فحين تخلو مع إلهك وتخبره بأسرارك وتطلب منه ما يجول بخاطرك فأنت هنا تمارس علاقتك الخاصة وليس لأحد أن يطلب منك أن تفعل كذا أو أن لا تفعل كذا ، لكن هذه العلاقة خاضعة للقوانين التي وضعها الإله نفسه في ما يتعلق بالعبادات والمعاملات ، وقد أمر الأمة بأن تنفر طائفة من أبنائها كي يتعلموا قوانين هذه العلاقة ، يقول تعالى في ذلك {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } ويوجه الأمة إلى الرجوع إلى هذه الفرقة في فهم أمور دينها فيقول {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، فهذه الآيات تحمل بين طياتها معاني عظيمة كثرة يندرج ما ذكرناه تحتها . إلا أن البعض أراد من هذه العلاقة أن تكون علاقة فوضوية، لا ضابط لها ولا وازع ! وهي مصداق ما ذكره الله في كتابه إذ قال {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} .

وعليه فقد أصبحت العلوم الشرعية بحراً يركب لجته من أراد ذلك دون أن يكون صاحب دراية أو معرفة ، فيجد صاحبنا نفسه ضائعاً هائماً على وجهه ترمي به الأمواج يميناً ويساراً ولا يدري ما يفعل ولا ما يفعل به ! وإذا ما خاطبته قال هذه علاقة بيني وبين ربي ! وهو في علاقته مع جسده يذهب إلى ذوي الخبرة والاختصاص وينصاع لأوامرهم ، وإذا أراد القيام بمشروع اقتصادي تراه يذهب إلى الاقتصاديين ويقوم بدراسة الجدوى قبل أن يقدم على مشروعه ويكون خاسراً فيه ! مع أن جسده ملكه ولا يشعر به أحدٌ غيره ! وأمواله ملكه وإن خسرها فلن يندم أحدٌ غيره ! إلا أنه حين علم نفع المختصين لجأ إليهم ! ولكن حين تعلق الأمر بقضية الوجود تراه يفتي برأيه ويذهب إلى ما لم يأت أحد به من قبله ، لا لأنه بحث ووقع على ما لم يقعوا عليه ، بل لأنه تخبط في مغالطات كان حري به أن يحذرها !

وليت الأمر بقي على هذه الحال ! بل ذهب بعضهم إلى وجوب إلغاء هذه الدراسات والعلوم ، أقصد الدراسات الدينية من فقه وأصول ومصطلح وغيرها  ! ولا أدري ما الذي جال بخاطر هؤلاء ! فعلى مستوى العلوم البشرية تجد أن تطور الفيزياء إلى فيزياء الكم لم يكن حجة أو عذراً أو مسوغاً للمطالبة بإلغاء الفيزياء الكلاسيكية ! وإنما بقي تعليم الطورين جنباً إلى جنب! فلا أدري أكان من المصادفة أن يشترك أصحابنا في هذا المطلب مع الملحدين واللادينيين أم أنها كانت حيلة انطلت عليهم لا أكثر !

لا أريد أن أدخل في قضية التشكيك في النوايا والمقاصد ، لكن كما أن خصومتنا العلمية مع من يعطل العقل تقع في رأس الهرم إلا أنها لا تقل عن خصومتنا مع من انسلخ عن تراثه ظاناً أنها طريقة للسير على درب الحداثة والعقلانية . وفي ختام مقالي آمل ألا يظن أحدٌ أنني أقصده بعينه ، وإنما هو كلام عام أريد به لفت النظر إلى فكرة لا إلى أصحابها ، وإلا فكلٌ حرٌ برأيه . ونسأل الله التوفيق والسداد .


1 ذهب البعض إلى أنها كانت قبل سقراط ولكنها نشطت في عهده وهذا لا يؤثر على استدلالنا .

2. راجع الموسوعة العربية ، ص312

هناك تعليق واحد:

  1. موضوع ماتع , وايضا العلم الحديث يرى ثغرات كثير في النظرية النسبية , ولكن هذا لا يمنعه ان لا يكون اعظم نظرية في القران الماضي , وانما الباعث لهؤلاء السذج هو الغرور الفكري لا اكثر

    ولي تعقب على السفسطة , هو كل أتي , انهم لم يكونوا مدرسة وانما جماعات ظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد , يدعون العلم وكانوا ينكرون المحسوسات والبدهيات ولا يعترفون بشيء من الوقعيات , وبعدها عرفوا بالسوفسطائية واقدم سفسطائي هو (بروتاجوراس) (480ق.م) وكان متهم بالالحاد
    منذ دقيقة تقريباً ·

    ردحذف