السبت، 5 يناير 2013

المفاهيم الأمريكية والخاصية الزئبقية




مقال بعنوان "المفاهيم الأمريكية والخاصية الزئبقية"



-إبراهيم الفيومي ،  نشرته صحيفة القدس العربي 2012-10-11








منذ أن انبرت الولايات المتحدة الأمريكية للعب دور النبيل الذي يحاول إحقاق الحق وإزهاق الباطل في العالم بنشر قيم الديمقراطية والحرية، حتى تبين بوضوح وجلاء غموض هذين المفهومين لا سيما على الطريقة الأمريكية، فنجد أن هذين المصطلحين يمتازان بخاصية زئبقية واضحة المعالم، سواء على مستوى التعاطي مع الأشخاص أو التعامل مع الحكومات وخيارات الشعوب؛ فهو يتغير تبعا ً للقالب الموضوع فيه كما سنبين في عدد من الأمثلة التي سنضربها في هذا المقال المقتضب، والذي حاولت جاهداً تسليط الضوء على هذا المفهوم حتى يتسنى للناظر فهم سياسات الولايات المتحدة في التعاطي مع الشعوب.


أما على مستوى التعاطي مع الأشخاص فيظهر للناظر للوهلة الأولى أن الحرية غير محدودة وبإمكانك انتقاد أي شخص مر على هذه الحياة حيا ً كان أو ميتا ً حتى رئيس الولايات المتحدة نفسه! وهو ما أكد عليه الرئيس أوباما في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة متذرعا ً أن هذا هو القانون الذي لا يمكنه تجاوزه في تعليقه على حادثة الفيلم المسيء للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومما يؤكد على صدق كلام أوباما ظاهريا ً وأن هذا التعاطي ليس مخصوصا ً مع المسلمين فقط، أن آلية التعامل كانت ذاتها مع رواية شيفرة دا فينشي للأمريكي دان براون والتي تحمل بين طياتها إساءة واضحة للسيد المسيح - عليه السلام - والتي أنتجت فيما بعد لتصبح فيلما ً تصدر قائمة الأفلام في كندا والولايات المتحدة بإيرادات تقدر بحوالي 224 مليون دولار في أول أيام عرضه، بيد أننا إذا نظرنا من زاوية مختلفة ونظرنا إلى انتقاد الفنانة التشكيلية العراقية ليلى العطار للرئيس الأمريكي بوش بطريقتها الفنية إذ قامت برسم صورته على مدخل فندق الرشيد في بغداد اعتراضا ً على العقوبات التي فرضت على العراق والتي أدت إلى تجويعه، نجد أن آلية التعاطي معها كانت مختلفة كليا ً فقد قامت الطائرات الأمريكية بقصف منزلها لتجعلها وأهلها في عداد القتلى! بلا محاكمة وبلا أي إجراء قانوني. ولعل هذه الحادثة تكفي لبيان مدى الزئبقية في تعامل الولايات المتحدة مع مفهوم حرية التعبير عن الرأي في انتقاد الأشخاص.


أما القضية الثانية والتي سنتكلم فيها عن قضية تعاملها مع خيارات الشعوب ولا نكاد نجد مثالا ً أجلى من الانتخابات الفلسطينية التي أفرزت حركة المقاومة الإسلامية حماس المدرجة ضمن قوائم الحركات والدول الإرهابية، والتي أدت إلى تضيق الخناق على الشعب الفلسطيني لا سيما الغزي منه وفرض حصار منع أدنى مقومات الحياة من الدخول إلى القطاع المحاصر، قبل أن يزج بالحركة والشعب الفلسطيني الذي اختارها في حرب غير متكافئة بمباركة أمريكية واضحة! 
وعلى العكس من ذلك فنجد أن قرار انقسام السودان لاقى ترحيبا ً أمريكيا ً ملفتا ً ودعما ً أمريكيا ً للدولة الناشئة، إذ أن الدولة الناشئة مطابقة للمواصفات والمقاييس الأمريكية، فعندها يحق لها الحصول على الحرية والاستمتاع بالديمقراطية كحق لهم كفلته لهم الأعراف والقوانين 'الدولية'!



مما سبق يبدو بوضوح كيف يؤثر القالب الذي توضع فيه الحرية والديمقراطية الزئبقية على شكلها المستقبلي، ومنه نكاد نجزم أن الحرية والديمقراطية لا تمثلان سوى إبرة تخدير لتمرير السياسات الأمريكية إلى المنطقة تحت ستار قانوني، فإن جاءت النتائج والمخرجات مطابقة لما تريده الولايات المتحدة فبها ونعمت، وإن خالفتها فلا مفر من الحلول الأخرى حتى لو كانت عسكرية لا تبقي بعدها أحدا ً ولا تذر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق